” نورا شلهوب ” حولها الاحتلال من طفلة صغيرة إلى مقاومة صغيرة
طفلة صغيرة بريئة, لم تترك حولها سوى بصمات الحب والرقة والهدوء, دون أن يعلموا ما يجول في خاطرها, فلا أحد من ذويها توقع عملها البطولي رغم أنها كانت تتمنى الاستشهاد منذ صغرها, فكانت متلهفة على جمع صور الشهداء وتلزيقها على جدران غرفتها, أحبت البطولة وأصرت على السير في طريقها رغم صغر سنها, فهي الاستشهادية نورا شلهوب تلك البطلة التي جعلت اسمها حكاية للأبطال.
نشأتها
نورا ابنة السادسة عشرة من مدينة طولكرم، فتاة فلسطينية نبذت ما انحازت إليه قريناتها، وتركت كل ما يشد إلى نوازع المتعة والزينة، وقيدت تفكيرها واهتماماتها بكل ما يتصل بهموم وآلام ومعاناة شعبها، وما يخفف عنه بطش وجبروت وقمع الاحتلال, نشأت وترعرعت الاستشهادية في بيت ملتزم, عرف عنها حبها الشديد للقدس والأقصى .
تميزت بالذكاء والتفوق منذ الصغر وكانت محبوبة جداً في مدرستها ولدى زميلاتها ومعلماتها فكل من عرفها أحبها، التزمت بالزى الشرعي لحبها الشديد لدينها فقد كانت ممن يحفظ من القرآن الكريم وشاركت في العديد من الأنشطة الإسلامية داخل المدرسة رغم صغر سنها .
تفاعلت الاستشهادية نورا مع أحداث الانتفاضة وخاصة انتفاضة الأقصى, وتأثرت بالشهداء والاستشهاديين فكان تتجمع صور الشهيدين عامر منصور الحضيري و فواز البدران اللذان اغتيلا على يد الغدر الصهيوني في محافظة طولكرم على خلفية انتمائهما لكتائب عز الدين القسام, وممن أثر فيها كثيراً استشهاد القائد القسامي الشهيد محمود أبو هنود وذلك حسب ما وصف المقربون منها.
وهي أيضا تأثرت بفعل الاستشهاديين الكبار الذين نفذوا عمليات بطولية في قلب الكيان الصهيوني, فكانت تجمع صور الاستشهادي محمود مرمش والاستشهادي احمد عمر عليان منفذا عمليتان استشهاديتان في قلب الكيان فيما عرف بالعهدة العشرية القسامية وكذلك الاستشهادي مؤيد صلاح الدين وهي أيضا تحتفظ بوصاياهم .
واعية سياسياً
يشهد لها من يعرفها عن قرب بوعيها السياسي والثقافي وأنها مدركة للأحداث والتطورات وما يجري على الساحة الفلسطينية والعالمية وما يحاك ضد هذا الشعب من مؤامرات فكان ذلك جليا من خلال مناقشتها لمن يكبرها سنا فهي محبة للمطالعة وتتابع نشرات الأخبار باستمرار وكذلك الصحف .
كانت “نورا” تسير في شوارع مدينتها طولكرم ترتدي زى المدرسة الأخضر، والحجاب الأبيض يلف وجهها البريء، تحمل أدواتها المدرسية ودفتر أشعارها الصغير، وفي طريقها إلى المدرسة الذي تسلكه كل يوم، ذهاباً وعودة، كانت تبصر جنود الاحتلال وهم يمرون في شوارع المدينة بزيهم المعروف وأسلحتهم الشرهة للقتل في أي لحظة وبخاصة عند حاجز “الطيبة” الواقع جنوب غرب مدينة طولكرم.
لم يكفها تنمية وعيها السياسي والثقافي والديني وحفظها لأجزاء من القرآن الكريم، وإدراكها للأحداث ومعايشتها للتطورات والمستجدات على الساحة الفلسطينية والإقليمية والدولية، وما يحاك للشعب الفلسطيني وقضيته من مخططات ومؤامرات، فكان قرارها الحاسم القاطع الذي لا رجعة عنه ولا فكاك من تنفيذه والالتزام به.
عشية تنفيذ “نورا” عمليتها الاستشهادية أدت صلاة العشاء ليلة الأحد 24ـ4 ـ 2002م وقبلت والدتها ووالدها، وداعبت أشقائها الخمسة الصغار، ودخلت إلى غرفتها حيث اعتقد الجميع أنها ستنام ككل ليلة لكن تلك الليلة كانت مختلفة.
وقفت نورا أمام ملصق معلق في غرفتها لأحد القادة الشهداء ثم جلست على مكتبها وكتبت رسالة إلى أهلها وكل أبناء وطنها فلسطين.
موعد الشهادة
كتبت الصغيرة نورا “إن الاحتلال تمادى في عدوانه وجرائمه ضد الشعب الفلسطيني بكافة الأشكال وآن الأوان لتلقينه رسالة واضحة ليعلم أنه لا أمن له في أرضنا”.
وأوصت زميلاتها في المدرسة خيرا بالوطن, وأوصت المدرسات بتربية الطالبات والطلبة على حب الوطن.
وفي ختام وصيتها أكدت نورا أنها تهدي ما قررت أن تفعله لعدد من الشهداء منهم: فواز بدران، عامر الحضيري، رائد الكرمي، فراس الجابر، ود. ثابت ثابت، وجميعهم تم اغتيالهم على يد قوات الاحتلال، كما أهدتها إلى كافة الشهداء والجرحى.
وفي منتصف تلك الليلة خرجت نورا من منزلها وهي تحمل شيئاً لامعاً معها متسللة بخفة وهدوء لتستقل سيارة أجرة إلى قرية فرعون المجاورة، ومن هناك سارت مشياً على الأقدام بين الحقول إلى أن وصلت حاجز “الطيبة” العسكري، وعلى بعد حوالي كيلومترين حيث يتمركز جنود الاحتلال، وما إن اقتربت حتى استجمعت كل ما تملك من شجاعة وقوة وإقدام وإباء، واستلت سكينها الحاد ذا النصل اللامع محاولة طعن أحد الجنود الصهاينة، إلا أن بقية الجنود سارعوا لفتح نيران أسلحتهم الرشاشة صوب جسدها الصغير فارتقت شهيدة كريمة أبية.
وقتها صرح الناطق العسكري باسم قوات الاحتلال تعقيباً على قتل نورا أن الجنود المتمركزون على حاجز “الطيبة” شاهدوا في حوالي الساعة الثانية من فجر يوم الاثنين 25ـ2ـ 2002م فتاة فلسطينية كانت تشهر سكينا بيديها وتتجه نحو الحاجز، زاعماً أن الجنود أطلقوا أعيرة نارية تحذيرية،وعندما لم تنصع الفتاة أطلق أحد الجنود النار باتجاهها فسقطت على الفور، فيما لم يتوفر أي شهود عيان على هذه الحادثة، التي تثبت أن جنود الاحتلال لم يتورعوا عن استخدام القوة الأشد فتكا ضد الشهيدة نورا، في حين كان بإمكانهم القبض عليها.
والد الشهيدة
والد الشهيدة نورا فوجئ بنبأ استشهاد ابنته من أحد أصدقائه العاملين في أحد أجهزة السلطة الفلسطينية ولدى بحثه في غرفتها وجد الوصية التي تركتها.
رغم الألم الذي عصف بوالدها الدكتور جمال شلهوب إلا أنه يؤكد أنه فخور بها وأنه يرفع رأسه عالياً بما حاولت أن تقدمه نوراً من نموذج حي للإنسان الفلسطيني، مشيراً إلى أن مشاعر الناس لا تستطيع أن تتحكم فيها المدافع والطائرات التي لا ترهبهم، بل تجعلهم أكثر إيماناً بضرورة المقاومة والجهاد حتى إنهاء الاحتلال وتحرير الأرض والمقدسات.
وكان آخر ما نطق به الأب من كلمات تفسيراً لصنيع ابنته قوله أنها “كانت طفلة متفوقة وجميلة ومرهفة الإحساس وربما لأنها كانت كذلك فعلت ما فعلته ورحلت, كانت تتمنى الشهادة حتى نالتها”.
أما والدة الشهيدة نورا فقد رفعت وصية ابنتها بيدها، وعيناها تذرفان الدمع المدرار، وشرعت في قراءة ما كتبته ابنتها الصغيرة التي حولها الاحتلال كما تقول من طالبة برئية تلبس زي المدرسة الأخضر إلى مقاومة صغيرة،حاولت أن تقتص من جنود الاحتلال الذين حولوا أحلامها الوردية إلى كابوس.
ومضت الأم تقول: “كانت نورا رقيقة المشاعر، تفرح لفرحي وتحزن لحزني وتغضب لغضبي، ولا تتركني حتى تمسح الحزن والغضب عني لذا سأذكرها ما حييت”.
وحتى اليوم لا يستطيع والدها وأسرتها تخيل أن ابنتهم الصغيرة المدللة قامت بكل هذا العمل الذي يتطلب جرأة استثنائية، حيث يؤكد والدها أنه لم يخطر بباله لحظة واحدة أن تفكر نورا الصغيرة الجميلة الوديعة بكل هذا، مشيراً إلى أنها كانت متفوقة في دراستها، ولكونها أكبر أخواتها فقد كان تتحمل كثيراً من أعباء الاهتمام بهم ومتابعتهم، وخصوصاً في مجال الدراسة, ولم يظهر في حياتها اليومية أي مؤشر لذلك”.
تلك كانت الشهيدة نورا.. مظهر خارجي كان يتسم بالرقة والهدوء يخفي بركانا يعتمل بداخلها شوقًا للشهادة وحقدا على الاحتلال