الشهيد محمد عبد الرحيم الحنبلي
ميلاد الفارس
وُلد محمد عبد الرحيم الحنبلي عام 1975م لأسرة فلسطينية متديِّنة معروفة في نابلس، فوالده أحد شخصيات المدينة المعروفين ورئيس لجنة الزكاة فيها.
التحق محمد منذ الصغر بالمساجد، يتزوّد من ينبوع الإيمان خير الزاد لرحلة الجهاد التي كان يُعِدّ نفسه لها، والتحق بصفوف حركة المقاومة الإسلامية في أوان مبكِّر من حياته كأحد أشبالها المميّزين، وعُرف بورع وتقى ونقاء نفس نازع فيه أهل الجنة ليكون منهم.
وحمل حباً جارفاً للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار، فهو كثير الفعل قليل الكلام، مقدام همام، حسن المطالعة والتدبر والخشوع، صمته فكر ونطقه درر، حتى أحبّه جميع من عايشوه واختلطوا به.
على درب العياش
كان محمد شديد الذكاء حسن الفراسة وضيء الوجه بسّام المحيّا، اجتاز مراحل دراسته جميعاً بتفوّق ونبوغ رغم انشغالاته الكثيرة، وحصل على معدّل أهّله للالتحاق بجامعة النجاح الوطنية ليدرس الهندسة الصناعية في كلية المهندس الشهيد يحيى عياش عام 1995م.
وما إن انضم محمد إلى أسرة الجامعة حتى كان محرِّك “الكتلة الإسلامية” فيها، يشرف على عددٍ كبير من النشاطات، ومسؤولاً عن الكثير من المتابعات، حتى أصبح عضواً في مجلس الطلبة في العام 1997، وأعيد انتخابه في العام 1998 ليكون سكرتيراً لمجلس الطلبة للمرة الثانية.
وبعد عام انتُخب محمد الحنبلي رئيساً للمؤتمر العام لمجلس اتحاد الطلبة، الذي كان يرأسه الشهيد قيس عدوان.
ورغم إنهاء محمد لدراسته في قسم الهندسة الصناعية، وحصوله على شهادة البكالوريوس، والتحاقه بكلية الدراسات العليا؛ فقد بقي من العاملين الناشطين في “الكتلة الإسلامية”، يقدّم النصح والمشورة والمعونة، وقد عُرف عنه أنه من أصحاب المواقف الصلبة، ومن القادة العنيدين الذين لا يقبلون بأجزاء الحلول بل هو ممّن يتشبثون بمطالبهم لتحصيل الحقوق الطلابية على النحو الأمثل.
عاش لدينه ودعوته
كلّ ما ذُكر عن حياة محمد ومرحلة دراسته في جامعة النجاح؛ لم يكن إلاّ شيئاً يسيراً عن سيرة هذا الفذ ومسيرته، وهو الذي عاش لدينه ودعوته وفكرته ووطنه السليب كلّ أيام حياته.
لقد عاش محمد للإسلام، واستشهد على درب القسّام، وخاض التجارب تلو الأخرى، فبعد عملية “عمانوئيل” الأولى، التي نفّذها الشهيد عاصم ريحان وقُتل فيها أحد عشر صهيونياً؛ اعتقلت السلطة الفلسطينية محمداً مع عددٍ من رفاقه في سجونها، غير أنه تمكّن من الإفلات بعد قصف طائرات “أف 16” لمقرّ السجن.
خرج من سجنه إلى الجامعة التي أحبّ أبناءها وأحبّوه، فحملوه على الأكتاف ودخلوا حرم الجامعة به محتفلين، فلقد كان اعتقاله لدى السلطة بمثابة حرق أوراقه وإرسال أولى الرسائل حول نشاطه في كتائب الشهيد عز الدين القسام، حيث بدأت متابعته من قبل القوات الصهيونية.
وبهذا جرى استهدافه بمحاولة اغتيال عن طريق إطلاق النار عليه ذات مرة من نقطة مقامة في “منزل أبو حجلة” قرب مفرق تِل، بينما كان يقف على باب أحد المنازل في رفيديا، فقفز أسفل جدار مجاور وكُتبت له النجاة من الاغتيال المحقّق.
بطولات البلدة القديمة
مع اجتياح مدينة نابلس وإعادة قوات الاحتلال الانتشار فيها، واقتحام بلدتها القديمة للمرة الأولى في شهر نيسان (أبريل) 2002؛ كان محمد قائد “كتائب الشهيد عز الدين القسام” وفي مقدمة رجالها المدافعين عنها.
كان يسهر على تفخيخ المداخل في وجه قوات الاحتلال وزرع العبوات الناسفة وتوزيع المجاهدين ونقل السلاح والذخيرة، حتى أوصل مقاتليه إلى تمام جاهزيتهم قبل الاقتحام، وكان له دور كبير في صمود البلدة أربعة أيام متواصلة رغم الحرب الضارية التي شُنّت عليها.
لقد لمس الجميع هناك وقتها تخطيطه البارع وقدراته على المناورة، ما كان له أثره في صمود المواقع التي تسيطر عليها حركة “حماس” حتى الرمق الأخير، وهو ما جعل المواطنين في نابلس يقدِّمون التحية للقسام وجنده وصمودهم الأسطوري.
نموذج فريد
بعد الانسحاب الصهيوني من بلدة نابلس القديمة؛ أصبح القائد الحنبلي نموذجاً ، فقد صار الهدف الدائم لعمليات التوغل والاقتحام الصهيونية التي عجزت عن الوصول إليه، وتمكّن أكثر من مرة من مغادرة مواقع كان يختبئ داخلها رغم حصارها من قبل القوات الصهيونية.
لقد داهم جيش الاحتلال منزله مرات ومرات، وتم اعتقال والده وأشقائه وعدد أكبر من أفراد أسرته، كونهم يحملون الاسم نفسه “محمد الحنبلي”، حتى جاءت لحظة الانتظار، وحان موعد الرحيل عن أرض “جبل النار” التي بقي ينوِّر ظلمة ليلها بصلاته وسجوده وجهاده وصبره الطويل.
رحيل المهندس
ليلة الجمعة، الخامس من أيلول لعام 2003م؛ حاصرت قوة من الوحدات الخاصة لجيش العدو الصهيوني بناية من سبعة طوابق، واستدعت عشرات الجنود والآليات العسكرية والطائرات المروحية إلى المكان الذي حاصرته، واشتبكت مع الشهيد محمد الحنبلي الذي رفض الاستسلام ساعات وساعات، حتى صعدت روحه إلى عنان السماء، بعد مصرع 4 جنود وإصابة أربعة آخرين من عناصر جيش العدو بجراح.
في التاسع عشر من مارس لعام 2014م، شيّعت جماهير غفيرة من مدينة نابلس بالضفة المحتلة، جثمانه الطاهر وذلك بعد احتجازه لـ 10 أعوام بمقبرة الأرقام.