الشهيد/ سعدي محمود رحمي
“سندي في الحياة، وعمودي الفقري، ضاع، أنا من دونه كطفلٍ تائه”، لا يبقى سوى الدموع، فتسقط دون إرادة من أبٍ فقد فلذة كبده.. إنه والد الشهيد محمود سعدي رحمي، في بيت عزاء الشهيد، تشهد قريباته وجارات الحي بطيبته، وحنانه على الكبير قبل الصغير، فلا يُسمع صوته إلا بذكر الله والصلاة على النبي. “
محمود سعدي رحمي”، 33 عامًا، من سكان حي الشجاعية شرق مدينة غزة، استشهد بنيران قوات الاحتلال خلال مشاركته بمسيرة العودة على الحدود الشرقية لقطاع غزة. طالب الشهادة . قبل خمسة أعوام من الآن، طلب محمود الشهادة على العكس من شباب جيله الذين يطلبون الزواج وأمورًا دنيوية أخرى، فلم يتقبل والده طلبه، فهو كأي أب يريد أن يرى ابنه عريسًا، ثم يرى أحفادًا منه، ولذا طلب من إخوته وأزواج أخواته أن يقنعوه بالعدول عن وقراره، فلا يزال في زهرة شبابه. وفي ليلة الجمعة الأخيرة، رأى محمود في منامه أنه عريسٌ يُزَف، وإخوته حوله يطلقون الرصاص في الهواء فرحًا بزفافه، لكن حلم الابن لم يكن مؤشرًا على قرب تفسير حلم الأب بزواج ابنه. بعد هذا المنام، استيقظ محمود منشرح القلب، وذهب إلى عمله في بيع الزعتر والدقة في سوق الشيخ رضوان، وعاد على عجل من أجل تلبية نداء الوطن، طلب من زوجة أبيه أن تستعد هي وإخوته للمشاركة في مسيرة العودة، ولكن والده لم يسمح بذلك. اغتسل “وكأنه عريس” على حد وصف والده، وجهز نفسه للصلاة ومن ثم الانطلاق للحدود الشرقية للقطاع، وقبل ذهابه باغته اتصال حمل له خبر إصابة أخيه في قدمه، فتذرع لوالده بأنه سيخرج من البيت ليطمئن على صحة أخيه، واستثمر الفرصة ليذهب إلى المسيرة. نصف ساعة فقط مضت على خروجه من البيت، بعدها بدأ الجيران بالاتصال على والده ليسألوه عن محمود، إن كان موجودًا في البيت أو لا، ثم أخبروه أنه استشهد. واجب وطني وقالت زوجة أبيه: “كان محمود يرفض خروج أخواته في المسيرات، ولأول مرة يطلب اصطحابهم معه”. وأضافت: “عندما كان محمود يتوجه إلى الحدود للمشاركة في أي تظاهرات أو مواجهات، كان يخرج دون إعلام والده حتى لا يشغل باله عليه، وخوفًا من أن يمنعه، لأنه يرى ذلك واجبًا وطنيًا لا يحتمل النقاش”. ورغم أن أصول عائلته من غزة، أي أنه ليس لاجئًا، إلا أن محمود كان يرى المشاركة في مسيرة العودة واجبًا على كل فلسطيني لاسترداد الحق المسلوب، ففلسطين أرض الجميع وليست أرض اللاجئين وحدهم. وأوضحت زوجة أبيه: “باع حياته من أجل الشهادة والجنة، كنت أشعر بنزعته الوطنية وحبه للأرض”. وواصلت: “حقق رغبة العائلة بالزواج، فخطب بالفعل، وبدأ يجهز نفسه لحفل زفافه في الشهر القادم، لكنه زُف إلى الجنان، هو أحلى عريس، وشهيد بوجهٍ يُشعّ نورًا”. قالت وهي بالكاد تجمع الحروف وترتب الكلمات: “راح الي ما كان يهون عليه زعلي، راح روحي وما ضل شيء بعده”. أوضحت: “عندما وصل نبأ استشهاده، توجهت إلى مستشفى الشفاء، وقفت عند بوابة مغسلة الموتى أنتظر جثمانه، وقلبي يكتوي نارًا، ذهب وترك قلبي يتلوع حزنًا ووجعًا، ولا يدرك ذلك إلا من جرب مرارة الفقد”. “الجدع” عُرف محمود باحترامه وأدبه وأخلاقه، والتزامه بصلاته وواجباته، وعُرف بكرمه بين أهله، وقالت إحدى جاراته: “في طريق عودته من عمله، كان يدق باب بيتي ليعطي أبنائي السكاكر والحلويات، قبل أن يكمل طريقه إلى بيته”. ذاق محمود مرارة اليُتم عندما كان في الخامسة من عمره، إذ توفيت والدته إثر مرض أصابها، وربته زوجة أخيه مع أبنائها، ولاحظت تمتعه في طفولته بصفات تميّزه عن أقرانه الأطفال، من هذه الصفات ذكرت: “الجدعنة وشهامة الرجال، وكان يحب اجتماعات العائلة”. قالت: “لم يكن يقبل أن يرفع أحد أبنائي صوته عليّ، وإن فعل أحدهم ذلك، يضربه” ربما حكاية حياة الشهيد الثلاثيني “محمود” بسيطة، لكن رحيله سيترك فراغًا لدى عائلته وجيرانه ورفقاء حارته الذين سيبقون يذكرونه في كل مرة يجتمعون على باب الزقاق ويتذكرون مواقفهم معه.