الشهيد المشتبك يوسف صلاح في ذكرى ارتقائه
عائلته تعيش الفقد الثاني، وباغتياله أطفأ الاحتلال 3 أفراح:
لم تدرِ أم عنان -والدة الشهيد يوسف صلاح- وهي ترافق نسوة من جنين في أثناء زيارتها قبل عدة أيام لمواساة ودعم
والدة الشهيد بلال قبها، وزيارة منزل الاستشهادي ضياء حمارشة في بلدة يعبد جنوبي غربي جنين، أنها ستكون بعد أيام
على موعدٍ مع جرح فقدها الثاني، فلم تجف بعد دموع فراق ابنها الشهيد سعد عام 2017، ليكتب الحزن فصوله من
جديد وتودع ابنها يوسف (21 عاماً)، فيمتلأ بيتها هي بالمُواسين والمُعزّين.
كانت عائلة صلاح تستعد لقرع طبول ثلاثة أفراح متتالية، الأول بتفوق ابنتهم “تالا” بالثانوية العامة من الفرع العلمي،
والثانية كانت تبحث عن عروس لنجلها يوسف وإعلان عقد قرانه، والثالثة استقبال نجلها الأسير أسامة بعد أحد عشر يوماً
من “الاعتقال الإداري”.
الساعة الأخيرة:
الواحدة والنصف فجر الجمعة، قطعت أصوات رصاصات قوات الاحتلال وقنابل الغاز التي بدأت رائحتها تنفذ إلى نوافذ
منازل أهالي المخيم جلسة يوسف مع عائلته، فانسحب منها بلمح البصر ونزل لميدان المواجهة والتصدي كما في كل
مرة يجتاح فيها جنود الاحتلال مخيم جنين.
القلق المنبعث من قلبَي والديه كان يمنعهما من إغلاق عينيهما والنوم مع تعالي صوت الرصاص، أمسك والده هاتفه
متصلاً بنجله وهو يقول في قرارة نفسه “يا رب يرد” لكن يوسف لم يرد!
حاول مرة أخرى، صوت ابنه ينبعث من السماعة الخارجية، فقال له والده راجياً: “روّح أمك تعبانة عليك” تدخل أمه
الحديث بصوتٍ يغلي: “مانسيناش أخوك سعد يما روّح”، فطمأنها “هسا جاي”.
الضوء المنبعث من شاشة الهاتف مع توارد الأخبار عن استمرار المواجهة والاقتحام عبر مجموعات الأخبار، ظلَّ يمنع
والده المقعد -إثر إصابة تعرض لها في انتفاضة الحجارة- من النوم، فكان يحوم بكرسيه المتحرك تجاه نوافذ المنزل
هو ووالدته ينظرون من النافذ يتحسسون قدوم يوسف، فحاول مرة أخرى الاتصال بنجله، ولكن لا مجيب!
ثم اتصل وكان الهاتف مغلقاً، تزامن معه اتصال صديق له يطلب المتصل منه الاتصال بنجله.
توهج ضوء شاشة هاتفه المحمول بصورة يوسف التي أطلت عليه، يعلنون استشهاده برفقة براء لحلوح، وليث أبو سرور،
بعد قيام قوة خاصة من جيش الاحتلال بالتسلل إلى الحي الشرقي في جنين وأطلقت وابلاً من الرصاص باتجاه مركبة
كان يستقلها أبطال الاشتباك الثلاثة؛ فأدت إلى استشهادهم على الفور.
“نفدت ذخيرة ابني ورفاقه فانتقلوا من منطقة البيادر إلى الحي الشرقي (يطلق عليه اسم حارة الدبوس) وهناك كانت
قوات الاحتلال نصبت كميناً لهم وحاصرتهم من جميع الاتجاهات، وقامت بتصفيتهم (..) يوسف كان دائماً يخرج مع شباب
المخيم، ومنذ طفولته يتصدى لقوات الاحتلال، وختم آخر لحظاته وهو يقاوم” يصف والده آخر لحظات نجله لصحيفة
“فلسطين“.
طفولة واقتحامات:
أفاق الشهيد يوسف صلاح على طفولةٍ رأى فيها والده مقعداً عن الحركة بسبب الاحتلال، واقتحامات متتالية للاحتلال
لمنزله واعتقال أشقائه، فزار السجن وهو فتى لم يتجاوز ستة عشر عاماً، وكانت هذه المحطة الأصعب التي لم تنسَ
والدته تفاصيلها حتى اليوم “سجنه الاحتلال لمدة عامين ونصف، وخلال أسره استشهد شقيقه سعد، وكانت بمثابة
صدمة له في السجن، وظل يصرخ يريد شقيقه، وبدلاً من إرساله من غرف الفتيان إلى غرف الأسرى لتهوين الفراق عليه
أرسله الاحتلال لزنزانة العزل فزادت الصدمة التي رافقته حتى خرج”.
اعتُقِل يوسف مرة أخرى لمدة ثمانية عشر شهراً، ثم اعتقل إدارياً لمدة ثلاثة أشهر ومثلها مرةً أخرى، بصوت مكسور ترثي
أم عنان مصابها الجلل لصحيفة “فلسطين”: “لم يعش ابني طفولته، ولم يعش حياة كريمة لا خارج السجن أو داخله، فقد
اعتقِل لمدة ثلاث سنوات ونصف ذاق فيها العذاب والمر، وخرج مصدوما نفسياً”.
رغم مصابها الجلل وهي تعيش الفقد الثاني، تعتبر والدة الشهيد يوسف صلاح أن “المقاومة شرفاً لأنها تدافع عن
فلسطين والأقصى، حتى آخر اللحظات جلس معي قبل خروجه لمدة عشر دقائق وعند الحديث عن الاشتباكات قال لي:
إنه سيخرج عشر دقائق، لكنه لم يرجع”.
تستحضر ابتسامة نجلها رغم مداهمة الدموع صوتها: “كان يوسف مبتسماً طوال الوقت، يحبه الجيران، أذكر أنه عندما
أصدر الاحتلال حكماً بحقه قابله بالابتسامة ولم يبكِ، وكان قوياً شجاعاً يواجه الاحتلال، في آخر شهر من حياته طلب أن
نختار له عروساً، وكنت أبحث له كل يوم وها هو تختاره عروس من السماء”.
رصاصات من مصروفه:
أتقن يوسف مهنة الدهان، وكان في كل مرة يدخر مالاً إزاء كل عمل يقوم به، ويشتري فيه رصاصاً، إضافة إلى أنه اشترى
سيارة حديثة، وكان يؤجرها ومن ثمنها يشتري رصاصات يقارع فيها الاحتلال في كل مرة يدخلون فيها مخيم جنين، ترافق
الدموع صوت والدته وهي تستذكر تلك اللحظات: “في كل مرة كان يخرج فيها كنا نبقى على أعصابنا حتى يعود، كنت
أخشى من هذه اللحظات، فلم يضمد جراح فراق ابني سعد”.
شقيقته تالا التي امتحنت في الثانوية العامة، وكانت تحمل على عاتقها إدخال الفرحة لقلوب عائلتها أصيبت بصدمة بعد
هذا الانكسار، وكتبت على “فيسبوك تشارك الجميع همها: “أصبحت أخت شهيدين، وابنة جريح، وشقيقة أسير” ورغم أن
صوتها وصل إلى وزارة التربية والتعليم التي قررت تأجيل امتحانها لوقت لاحق يناسبها، إلا أنها أصرت على تقديم
الامتحانات في موعدها؛ انتصاراً لروح شقيقها، وعن ذلك تقول والدتها المكلومة: “قطعت ابنتي وعداً على شقيقها
سعد بالاحتفال والتفوق في الثانوية العامة، وكانت تريد إهداء تفوقها لروحه الذي تمنى لها النجاح دوماً، والآن أيضاً
ستهدي نجاحها لروح يوسف”.
“نحن -الشعب الفلسطيني- معرضون لهذه المعاناة، وابنتي قررت استكمال الامتحانات حتى تنال من كرامات شقيقيها
الشهيدين” تختم والدته، التي كانت في ذلك الوقت تستعد لاستقبال ابنها الأسير أسامة بعد أحد عشر يوماً من الاعتقال
الإداري، لعل وجوده يخفف عنها من رحيل سعد ويوسف.